شوقي نهض بالأدب إلى أعلى قمة ولكن... | الأستاذ كرم ملحم كرم

من مجلّة "المنتدى" [01 آب 1945] | جرايد

 

المصدر: "المنتدى" - المجلّة العربيّة الفلسطينيّة.

موعد النشر: الأربعاء، 01 آب 1945.

موقع النشر: جرايد.

 

بقلم: الأستاذ كرم ملحم كرم

 

يلتفت الجيل إلى شوقي بإعجاب لا يخلو من انحناءة خشوع صادقة، وشوقي في بيان الضاد قمّة يباهي بها عهد البعث مَن أطلّ ومَن سوف يطلّ، فحبانا من بليغ مظنون ما أحسسنا به أنّنا بين أولئك الأعلام من أمثال أبي نؤاس وأبي تمّام والمتنبّي، وقد امتزجت فيه قوّة الانسجام بقوّة استنزال المعاني. وليس لمن يدقّق في أدب الضادّ أن يتجاهل صاحب "الشوقيّات" أو يتعامى عنه، فلا بدّ له من الإعلان، شاء أو أبى، أنّ شوقي توقَّل في دنيا الفنّ إلى الأعالي، ولهذا التوقُّل مقياس يتبدّل باختلاف الحسّ والمعتقد، إلّا أنّه ملموس؛ فالإيمان بالموهبة الفيّاضة بالمجاني، والملكة المطبوعة على الشدو الأنيس، محتوم على كلّ مَن ينتفض في جوانحه الإنصاف، وينطوي على مسكة من الذوق الفنّيّ وضلاعة النقد.

 

 

وشوقي في جميع منظومه، على سامي هذا المنظوم وغثّه، منشد صدوح، تتدفّق الكلمات من شفتيه أنغامًا، فكأنّ قصائده أغانٍ تحمل لحنها قبل أن ينفض الناظم يده منها، فتطلّ على شدو وشجو، لا تقلق الأذن بنبوة، ولا تغشى الانسجام بلهثة؛ فهي تسابيح نشوى يتنفّس فيها الصفاء في الأداء. وقد أوتي شوقي القوّة على تذليل الألفاظ، وصبّ الوحي في قوالبه المصطفاة. والنظم إن يكن شائكًا، متقلقل الكلم، غامض اللبّ، فقد طاش عن هدفه وبات من طينة الأحاجي والألغاز.

على أنّ شوقي، مع شدوه وانسجامه، ليس ابن نفسه في منظومه؛ فما ابتدع في النظم بدعة أنشأ له بها مذهبًا خاصًّا يحمل خاتمه، بل جاء يكمل السلسلة المصوغة منذ العهد الجاهليّ وكان حلقة فيها؛ فإذا أقمناه في العهد العبّاسيّ الأوّل، بجانب أبي العتاهية، وأبي نؤاس، مشى في القافلة لا يشذّ عنها ومنظومه مطبوع بميسمها. وإذا انتقلنا به إلى زمن الطائيّين كان منهما وفيهما، ولسنا نجده نغمة تختلف في مدّاتها وليّاتها عن المتنبّي والحمدانيّ إذا أودعناه بلاط سيف الدولة؛ فقد جمع قوالب العهود السابقة في نايه وعوده، ففيه من جميع المجلّين. فإنّنا لنقع فيه على أبي نؤاس، وأبي تمّام، والمتنبّي، وأبي العلاء، والديلمي، كأنّ منظومه صافي النوايا، بل محتشد الصفايا؛ فليس من قصيدة جاد بها إلّا ولها في السابقين ظلّ وشبه، وبوسعنا أن نخلع عليها عفوًا اسم موحيها، فنعيد الأمانات إلى أصحابها.

***

والتفت شوقي إلى الأعاجم وحاول أن يقتبس منهم ويحاكيهم، وقصيدته الأولى المقتعدة هامّة "الشوقيّات"، وهي أطول قصيدة له: "همت الفلك واحتواها الماء"، استمدّها من "حكاية الأزمان" لهوغو. على أنّ "ملحمة هوغو" تزيد على ثلاثة مجلّدات، وقصيدة شوقي في بضع مئات من الأبيات.

وشوقي خاطب الأطلال وبكى عليها، ومدح الملوك والخلفاء، وناح على العظماء، ولكنّه بكى وامتدح وناح بأسلوب مَن سبقوه. وشوقي حنّ إلى الكأس، ولكن حنين الأعشى والأخطل وأبي نؤاس، وشبّب ونسب، ولكن بلغة المخزومي تابع الجمال، والأعمى أبي معاذ، وبمعاني البهاء، ونظم الموشّحات، ولكن ببيان الأندلسيّين. فما من منحى في المنظوم إلّا وحاول شوقي أن يكون له فيه ضلع، ولا سيّما الشوامخ في الأدب؛ فكلّ قمّة جذبته إليها وتسلّقها. وهذا السعي للانطباع بطابع الأقدمين لم يبعد به عن المألوف، فكان نغمة تعوّدنا سماعها مع كلّ شجو فيها؛ فإذا طالعنا الأوّلين أمكننا الاستغناء عن شوقي، على حين إذا طالعناهم دون منمّقات أبي تمّام، ودون موشّحات الأندلسيّين، فإنّنا لنحسّ بأنّنا لم نطّلع على أدب الضاد بتمامة، فهناك مناهل خافية علينا.

إنّ أبا تمّام لخالق في أدب الضاد؛ فهو صاحب مذهب خاصّ استمدّ لونه من مسلم بن الوليد، إلّا أنّه غالى في هذا اللون وخلع عليه قميصه، فبلغ به مستوى لم يقو مَنْ جاء بعده على تبديل معالمه. فأقبل المتنبّي وأبو العلاء ولم يتمّ لهما أن يحيدا عن النهج المخطوط؛ فكان أبو تمّام إمامًا هاديًا قادهما في صعيده مستضيئين بمشعله بمشعله.

 

 

وهذه حال الأندلسيّين؛ فالأندلسيّون خلقوا الموشّح وذهبوا فيه مذاهب، وعقدوه على أدب الضاد حلية مجلوّة؛ فإذا ما قلنا الموشّح، قلنا عفوًا الأندلس، والكلمتان متلازمتان لا سبيل فيهما إلى انفصال.

وهل كان يفلح شوقي في ابتداع مذهب أدبيّ لو جاهد في الابتداع؟ قد يكون المطلوب فوق الطاقة، على أنّ شوقي لم يحاول، فاكتفى بالسنّة المعلنة، يبغي أن يتفوّق على الجميع ببلاغة الجميع؛ فتابع الخطو دون أن ينطلق إلى فتح مبين، مع أنّ عهد البعث النامي بحاجة إلى فتح أدبيّ يزدان به جبينه، ويثبت للعهود الفائتة أنّه يعادلها دون أن يزاحمها على معجبينها.

ولم يكن أحقّ من شوقي بأن يبدو في صولة الفاتح؛ فلا يمضي في استلهام مَن سلف. ومن المؤلم أن ينشدنا أديب اليوم قصائد، مهما كتب له فيها أن يسمو، يظلّ في نسجها وحبكها غائصًا في العبوديّة، يقوده أعلام الأمس البعيد، فإذا أجاد وقف وإيّاهم جنبًا إلى جنب.

أجل، ليس الإبداع وقفًا على عهد دون عهد؛ فقد يطلع في سماء النظم في الماضي الدفين مَن لا يدانيه أحد ممّن يقبلون على خطوه، وهذه هي "الإلياذة" في الأدب اليونانّي، و"الإنياذة" في الأدب اللاتينيّ، فهما من اليتامى في الأدب الأعجميّ؛ فالطبع على هذا الأديم صعب التوفيق، ولكن مَن أطلّوا بعد التماع هذه المعجزات جاهدوا في الابتداع في سبل لم تمهّدها الإلياذة والإنياذة والشاهنامة، ليتسنّى لهم الوصول والبقاء. وإلّا فالأدب لا يقيم لهم منزلة عالية إن هم اكتفوا بالمحاكاة والتقليد؛ فالفاتح الغازي أحبّ إلى النفس ممّن يتلوه في الجادة نفسها. وشوقي، وقد جمع في بيانه جميع السالفين، وُفِّقَ في قصائد قلال للوقوف بجانبهم، على أنّ مجموعه لا يكتب له التفوّق على الجميع.

***

ولو جاء الخيّام يطاول ناظم "الشاهنامة" في مذهبه الفنّيّ، فهل كنّا سمعنا بالخيّام المبدع، صاحب المعاني الباقية على الزمن وقد أعجز فيها المنافسين؟ والخيّام استقى منّا ونظم بلغته، فصاغ من كأس أبي نؤاس شكّ أبي العلاء، ولكنّه أبعد أفقًا، وأطول نجاحًا؛ فلا هذا ولا ذاك تغلغلا في المدى المنتهي إليه، وهو صاحب معجزة فنّيّة تعادل على ضؤولة حجمها "الشاهنامة" الضخمة البنيان، المنتظمة في ستّين ألف بيت. وهذه المعجزة، بل هذه اليتيمة في أدب الضاد، لم يكن أولى من شوقي أن يطلع بها علينا. ولكن قوّة الخلق قد تكون هاجعة فيه، وما يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها. وحَومان شوقي على المجلّين لم يمتدّ به إلى إطفاء جميل بثينة في غوالي النسيب، ولا إلى مجاوزة المتنبّي في قوّة السبك وبهجة المعاني؛ فليس من سادة الصفّ الأوّل في سوى النقاوة والانسجام، والقصيدة عنده تأليف موسيقيّ ممّا لم يتفوّق عليه فيه شاعر عربيّ، سواء في الأوّلين أو الآخرين.

 

 

ولقد تفوّق شوقي في الملعب، ولا يزال في هذه الناحية سيّدها الضخم. ولكنّ الفنّ التمثيليّ لم يكتمل بناؤه في ما أنشأ له شوقي من دمى وتماثيل؛ فإذا تمتّعت "مجنون ليلى" وبعض أخواتٍ لها بالطلالة والصفاء، فما نعمت جميعها بالقوّة الفنّيّة الطامع فيها الملعب الأنيق المستكمل الجهاز.

على أنّ شوقي أعطى كلّ ما عنده، فجاهد في ميادين الأدب حتّى ساعة الموت، وهذا عجيب، وهو إذا لم يطبع جبين هذا الأدب بمذهب جديد، فحسب أنّه دلّنا على أنّ بوسع ابن اليوم بلوغ المكانة العالية في النظم الأنيق. وللمقبلين بعده أن يتسابقوا إلى اقتناص أكلّة المجد؛ فالأدب مبسوط الأفق، وللموهوبين أن يشمخوا على المتقدّمين بالفتح والابتداع إذا استطاعوا؛ فقد نهض شوقي بهذا الأدب إلى عهوده الخضلة، وذلّل العقبة أمام النوابغ المفلحين، فالسبيل ممهّدة للخلق وليس فيها حصاة تعوق، فأين الخالقون ذوو البدع البيانيّة من الملهمين؟

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.